ثقافة النقد

بسم الله الرحمن الرحيم

ثقافة النقد الذاتي

النقد مفردة يدور معناها ومدلولها اللغوي  حول إبراز الشيئ وبروزه والكشف عن حاله  وجودته  وعيوبه بغرض إصلاحها وتلافيها .

وفي معناه الإصطلاحي يتسع ليشمل كل مدلولات المفردة ونطاقات استخداماتها في كل علم وفن  ولعل ماورد في تفصيل الدكتور بليل في مقاله تعريف النقد يغنينا عن الإسهاب في وإستصحاب كل التعريفات الإصطلاحية الأخرى .

اصطلاحًا:

( "النقد في حقيقته تعبيرٌ عن موقفٍ كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامَّةً، أو إلى الشِّعر خاصَّةً، يبدأ بالتذوُّق؛ أي: القدرة على التمييز، ويعبرُ منها إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم، خطوات لا تُغنِي إحداها عن الأخرى، وهي متدرجةٌ على هذا النسق؛ كي يتَّخذَ الموقف نهجًا واضحًا، مؤصلاً على قواعد - جزئيَّة أو عامَّة - مؤيدًا بقوَّة الملكة بعد قوَّة التمييز"[3].

ويتغايَرُ مفهومُ النقد بحيثيَّات الفن الذي يخاضُ فيه، فنقد الأدباء والشُّعَراء غير نقد الفُقَهاء وأهل الفرق، ونقد الأصوليين غير نقد المحدِّثين؛ فلكلٍّ قواعدُه ومناهجُه، غير أنَّ المشترك بينها هو النظر في المقالة لبيان عُيوبها، وكشف نقائصها، ثم الحكم عليها بمعايير فنِّها، وتصنيفها مع غيرها

والمعايير والأحكام الصادرة تتفاوَتُ وتتغايَرُ بحسَب الفن الذي يمارسُ فيه النقد، وبحسَب النُّقَّاد وملكاتهم العلميَّة.

كما للنقد مفردات مُقاربة؛ مثل: التقييم والرُّدود، والمناظرات والمحاورات، والجدل والمباحثة، والمِراء والمناقشة، وإنْ كان لكلِّ واحدٍ ما يُميِّزُه عن غيرِه من دواعي وأساليب وغايات ودوافع.) دكتوربليل - شبكة الألوكة الإلكترونية

وتنبع أهمية النقد من كونه وسيلة من وسائل الإصلاح لتمييز الخبيث من الطيب وكشف الأخطاء قبل استفحالها وتداركها بالعلاج قبل أن تستعصي على الحل .

والأخطاء سنة كونية ملازمة للبشر بطبيعتهم والحاجة للتصحيح والنصح والنقد تصبح ملحة وضرورية لإستمرارية الصواب وتجنب تكرار الأخطاء ، كما أن تعطيل النقد ينتج عنه تكريس للمألوف الخاطئ وتكديس للعيوب حتى تطفو وتستعصى على الإصلاح .

( وكمال ثمر النقد دوام خيريَّة هذه الأمَّة؛ فعِلَّة تفضيل القرون الأولى على باقي الأمم: امتلاكها ناصية النقد الذاتي؛ مما يكسبها: قابليةَ العافيةِ بعد الوَهَن، وتلافي المنغِّصات بالتنبيه على خُطُوات الزَّلَل، والقدرة على الكرِّ بعد الفرِّ، والقيام بعد القعود، فالنقد الذاتي من الفرد لنفسه يُورِث التوبة، ومن الفرد لأخيه يُرْشِد للأَوْبَة، وبين الأمة؛ يرفعها بعد الكَبْوَة؛ قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]،

والنقد منه ماهو داخلي يعنى باصلاح النفس وتزكيتها وماهو خارجي يتمثل في إسداء النصح للخلق وتبصيرهم بالأخطاء والعيوب التي تعيق تطورهم وتنغص حياتهم في الدنيا وتفسد عليهم آخرتهم  .

(وميّز علماء الاجتماع بين النّقد الإيجابي والنّقد السّلبي؛ فالنّقد الايجابي هو الذي يكون هدفه نبيلاً وغايته سامية، بينما النّقد السّلبي يكون بدافع الغيرة، أو الحسد، أو غير ذلك من آفات النّفس، ويكون على الأغلب بدون غاية أو هدف. إنّ أهميّة الّنقد الذّاتي في بناء الفرد والمجتمع كبيرة، فشخصيّة الإنسان هي مجموعة السّمات والخصائص الشّخصية التي تميّز كلّ إنسان عن الآخر، وكثير من سمات الشّخصيّة قد تتغيّر إلى الأفضل ويكون النّقد الذّاتي أداة تساهم في إحداث التّغيير في شخصيّة الإنسان، وبالّتالي تصحيح مساره في الحياة نحو الأفضل والأكمل. ومثال على ذلك أن يقوم الإنسان بنقد ذاته حين يتبيّن أوجه من أوجه القصور فيها فيقوم بتقويمها وإصلاحها، فالإنسان حين يرى نفسه كسولاً محبًّا للرّاحة والنّوم مثلًا لفترات طويلة، ويتبيّن أنّ هذا الأمر قد يشكّل له عقبة تجاه تحقيق كثيرٍ من الأمور والغايات فيكون النّقد الذّاتي لنفسه من خلال محاسبتها على ذلك وتذكيرها دائمًا بفوائد النّشاط والحركة ومساوىء الكسل والخمول. ولا شكّ بأنّ هذا الأمر يسهم في بناء النّفس الإنسانيّة من خلال تذكيرها بالمثل، والقيم، والمبادىء التي ترفع من شأنها وتعلي قيمتها بين النّاس. وإنّ محصلة النّقد الذّاتي لكل فردٍ من أفراد المجتمع أن ينتج مجتمع راشد يقوّم نفسه باستمرار ويوجّه مسيرته نحو بوصلة تحقيق الأهداف والغايات التي ترتقي بالمجتمع والأمّة. وكذلك من ثمار النّقد الذّاتي تغيير الحالة التي يكون عليها الفرد والمجتمع بحيث يلمس الإنسان آثار هذا التّغيير رغدًا في العيش وسهولة في الحياة، وإنّ سنّة التّغيير هذه من سنن الكون والحياة، قال تعالى: "إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، فبداية التّغيير إذن في واقع الحياة تكون بتغيير الأنفس وتقويمها. وأخيرًا إنّ النّقد الذّاتي هو وسيلة مهمّة لكثيرٍ من السّاسة والحكّام من أجل تصحيح مسارهم، وتعديل برامجهم، وتقويم سياستهم في إدارة شؤون الرّعيّة، وقد ضرب السّلف الصّالح من الخلفاء المسلمين خير مثال على ذلك، فقد كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مثالًا في محاسبة النّفس ونقدها، لذلك استطاع بناء دولةٍ إسلاميّة مترامية الأطراف يرهبها القاصي والدّاني)

ويتعاظم دور النقد الذاتي وأهميته في الكيانات المنظمة سياسية كانت أو أهلية أومنظمات مدنية إذ لابد من وجود أطر وقنوات تنظيمة لممارسة عملية النقد الذاتي وترسيخ ثقافتها في الأفراد والكوادر الحزبية وفق منهاج النصح والتناصح وتعزيز الإيجابي من السلوكيات والممارسات والسياسيات وكشف الجوانب السالبة مراجعة للسياسيات وممارسات الأفراد ، ولا يمكن أن ينهض عمل منظم دون بذل النصح والنقد الإيجابي الذي ينطلق فيه الناصح من واجب تمليه عليه قيمه الإسلامية ورغبة في الإصلاح والتقويم  لاتشهيرا وهدما وإنتقاما وتشفيا وتصفية حسابات شخصية ونقدا من أجل النقض غير منضبط بأداب النصح والنقد الإيجابي .

إن أكبر معيق لعملية النقد الذاتي للأحزاب والكيانات المنظمة هو غلبة الطبقة الديكورية التجملية التي تصور دوما الممارسات الحزبية للقيادات والأفراد والكوادر على أنها منتجات لاتخضع للمواصفات والمقاييس التنظيمية ممايجعل منها منتوجا مساحيقيا بفعل الدعاية التطبيلية غير قابل للتنقيب والبحث عن سوءاته ، ويظل هذا التقديس والتدليس طاغيا متراكما على الحقائق حتى ينكشف زيف المساحيق وتسقط الأقنعة وتبدو الوجوه على حقيقتها  ، ويقابل هذه الفئة أخرى لاترى إلا بمنظار ومعيار واحد للحوادث والشخصيات والممارسات تضع كل عمل وجهد قابل للخطأ والصواب  في خانة النقد السلبي فتعيق حركة العمل المنظم وتنثر اليأس والإحباط ولا ترتاد ميدان العمل الحقيقي إلا هدما وإعاقة ولايصدر مثل هذا النقد السالب الإ من نفوس مبتلاة بالحسد والكراهية أو عجب وغرور  ، ومابين الفريقين نجد النقد الإيجابي والنصح المأموربه بذلا للأمر بالمعروف ونهيا عن المنكر وممارسة للشورى  تحقيقا لعبودية الله وتحكيما وتمكينا لقيم الإسلام وآدابه وشعائره المعظمة  

بقلم أبوصهيب صالح عثمان

 

 

 

 

 
17-03-2016
Print this page.
http://www.nuoes.com